إنَّ قضيَّة الإسلام ليست بعيدة عن عناوين صحفنا اليوميَّة. في بداية فترة رئاسته، وضعَ الرئيس باراك أوباما قضيَّة الإسلام في مقدمة الساحة الدولية ومركزها. وأثارت زياراته للأراضي التي يسيطر عليها الإسلام وبياناته العلنيَّة إلى العالم الإسلاميِّ مجموعة من الأسئلة في الداخل والخارج.
في خطاب أمام البرلمان التركيِّ، أعلن الرئيس أوباما: «الولايات المتَّحدة ليست، ولن تكون أبدًا، في حرب مع الإسلام». وتابع قائلاً: «إن شراكتنا مع العالم الإسلامي أمر حاسم ليس فقط في دحر الأيديولوجيَّات العنيفة التي يرفضها الناس من جميع الأديان، ولكن أيضًا لتعزيز الفرص أمام الشعوب الإسلاميَّة نفسها». لكنَّ الرئيس تحدَّث أيضًا عن «تقديره العميق للإيمان الإسلاميِّ».
وهذا هو سياق هذا التصريح:
«أريد أيضًا أن أكون واضحًا بشأن أنَّ علاقة أمريكا بالجالية المسلمة والعالم الإسلامي، لا يمكن، ولن تكون، مبنيَّة على مقاومة الإرهاب. إنَّنا نسعى إلى مشاركة أوسع على أساس المصلحة المُتبادَلة والاحترام المُتبادَل. سوف نستمع بعناية، وسنعمل على بناء جسور لعبور سوء التفاهم، وسنسعى إلى إيجاد أرضيَّة مشتركة. سنلتزم بإظهار الاحترام، حتَّى حين نختلف. سننقل تقديرنا العميق للإيمان الإسلاميِّ الذي قام بالكثير على مرِّ القرون لتشكيل العالم؛ بما في ذلك في بلادي. لقد أثرى المسلمون الأمريكيُّون الولايات المتَّحدة. وكثير من الأميركيِّين الآخرين لديهم مسلمون في أسرهم أو عاشوا في بلدٍ ذي غالبية مسلمة؛ إنِّي أعرف ذلك، لأنَّني واحد منهم.»
في مؤتمر صحفيٍّ في تركيا، أدلى الرئيس ببيان آخر:
«واحدة من نقاط القوة العظمى للولايات المتَّحدة هي… أنَّنا لدينا عدد كبير من المسيحيِّين؛ لكنَّنا لا نَعتَبِر أنفسنا أمَّة مسيحيَّة أو أمَّة يهوديَّة أو أمَّة إسلاميَّة. إنَّنا نعتبر أنفسنا أمَّةَ مواطنين مُلزَمين بالمُثُل العليا ومجموعة من القِيَم».
عندما طُلِب منِّي الردُّ على الرئيس أوباما، قلت لمذيع سي إن إن CNN رولاند مارتن Roland Marti:
«أعتقد أن الرئيس أوباما كان مُحقًّا حين قال إنَّ الولايات المتَّحدة ليست في حالة حرب مع الإسلام. أعتقد أنَّ هذا توضيح مفيد للغاية. لكن لا يمكنك إخراج الإسلام من كلِّ النضال الحضاريِّ الذي نعيش فيه، ليس فقط بشأن الحرب على الإرهاب، ولكن بصراحة، فيما يختصُّ بوضع تعريفٍ لشكل الحضارة الجيدة وكيف يجب أن يتم تنظيم المجتمع، لا سيَّما إن ألقينا نظرة على ما مضى من قرون.»
أعتقد أنَّ الرئيس أوباما كان مُحقًّا في القول إنَّ الولايات المتَّحدة ليست في حرب مع الإسلام. هذا ليس مهمًّا فقط من الناحية الدبلوماسيَّة الدوليَّة، ولكن أيضًا من حيث السلطة الدستوريَّة. فليس لحكومة الولايات المتَّحدة أيُّ حقٍّ أو سلطة في إعلان الحرب على أيَّة ديانة.
يمكننا أن نتفهَّم السياق السياسي لهذا، خاصَّة وأنَّ الرئيس كان في تركيا. وبالنظر إلى الارتباكات المتفشِّية في العالم الإسلاميِّ، فهذا توضيح مهم. وبالطبع، سوف تكشف المراجعة السريعة لبيانات الرئيس جورج بوش أنَّه كثيرًا ما قال الشيء نفسه، مرارًا وتكرارًا.
تُعتَبَر حقيقة أنَّ الرئيس أوباما أدلى بهذه التعليقات في تركيا أمرًا مهمًّا للغاية. ففي جميع أنحاء العالم الإسلاميِّ، يرى معظم المسلمين أنَّ الولايات المتَّحدة هي في الواقع في حالة حرب مع الإسلام. إذ لا يتفهَّم الإسلام الكلاسيكيُّ أيَّ تمييز حقيقيٍّ بين الدين والدولة، ولكنَّه بدلاً من ذلك يؤسِّس مجتمعًا أحاديًّا. وهكذا، عندما تغزو قوة أجنبيَّة مثل الولايات المتحدة أمَّة إسلاميَّة مثل العراق، فإنَّ معظم المسلمين يرون أنَّ هذه حرب ضدَّ الإسلام.
بالرغم من اختلاف أشكال الحكم في العالم الإسلاميِّ، إلاَّ أنَّ هذا الفهم العامَّ يصحُّ. فعلى عكس المسيحيَّة في العهد الجديد، فإنَّ الإسلام هو في الأساس دين إقليميٌّ يسعى إلى إخضاع جميع الأراضي لحكم القرآن. كان الرئيس في تركيا عندما أدلى بهذه التصريحات، وعادة ما يتمُّ تعريف تركيا في وسائل الإعلام على أنَّها حكومة علمانيَّة. وفي الواقع، يتطلَّب الدستور التركيُّ حكومة علمانيَّة. ولكن، مثلما يعلم أيَّ شخص زار تركيا، فإنَّ هذا يتطلَّب تعريفًا شاذًّا للغاية لما يعنيه أن تكون علمانيًّا.
فكونك مسلمًا هو جزء مما يسمِّيه الشعب التركيُّ وكذا الحكومة التركيَّة «الهويَّة التركيَّة»، وهو مفهوم موحِّد يعود إلى مصطفى كمال أتاتورك، مؤسِّس تركيا الحديثة. وتعدُّ الإساءة إلى «الهويَّة التركيَّة» عملاً إجراميًّا في تركيا. تتولَّى الحكومة التركيَّة شأن كلِّ مسجد من المساجد التي لا تعدُّ ولا تحصى داخل الأمَّة التركيَّة وهي تدفع رواتب الأئمَّة. وهكذا، فإنَّ تركيا دولة إسلاميَّة ذات حكومة علمانيَّة، لكنَّ طابعها العلمانيَّ لا يمكن أن يُنظر إليه على أنَّه شيءٌ قد يُعدُّ، ولو قريبًا، من العلمانيَّة على الطراز الأمريكيِّ.
في ضوء ذلك، فإنَّ تصريح الرئيس أوباما بأنَّ أمريكا ليست بلدًا مسيحيًّا هو أمر دقيق ومفيد أيضًا، على الرغم من انتقاده من قبل العديد من المسيحيِّين المحافظين بسبب ادِّعائه هذا. وما قدَّمه من توضيح في تركيا المسلمة، يؤسِّس حقيقة علنيَّة أنَّ نظامنا الدستوريَّ الأمريكيَّ يختلف اختلافًا كبيرًا عمَّا هو موجود في العالم الإسلاميِّ؛ وحتَّى في تركيا نفسها.
علاوة على ذلك، إذا تمَّ فهم الولايات المتَّحدة على أنَّها أمَّة مسيحيَّة بنفس المعنى الذي تَعتَبر معظم الدول في العالم الإسلاميِّ نفسها أمَّة إسلاميَّة بمقتضاه، فإنَّ أمريكا ستكون فعلاً في حالة حرب مع الإسلام.
كان الجدل حول تصريحات الرئيس في هذا السياق ليس في محلِّه. هناك بالفعل جدال حول ما إذا كان من المناسب وصف أمريكا بأنها أمَّة مسيحيَّة، بمعنى ما إذا كان الأميركيِّين يسعهم حتَّى أن يقدِّموا مثل هذا الادعاء؛ لكنَّ السياق في تركيا والعالم الإسلاميِّ مختلف تمامًا.
هل يعتقد المسيحيُّون الأمريكيُّون حقًّا أنَّ المسيحيَّة قد تستفيد من ارتباطها بكلِّ ما تمثِّله أمريكا في العالم الإسلاميِّ؟ فبالنسبة للعديد من المسلمين، تبدو أمريكا وكأنَّها ينبوعٌ كبيرٌ للإباحيَّة والوسائل الترفيهيَّة المُنحَطَّة والإجهاض والثورة الجنسيَّة. هل من المفيد لشهادتنا عن المسيح أن يرتبط كلُّ هذا لدى العقل الإسلاميِّ بأمريكا «المسيحيَّة»؟
ليس هناك أيُّ شكٍّ من الناحية التاريخيَّة أنَّه قد تمَّ تأسيس الولايات المتَّحدة من قِبَل مؤسِّسين قد شكَّل الإيمانُ المسيحيُّ رؤيتَهم للعالم، وقد كانوا على وعيٍ بهذا إلى حدٍّ كبير في كثير من الحالات. إنَّ المبادئ الأساسيَّة لهذه الأمَّة تنبع من منطقٍ كتابيٍّ وقد تمَّ دعمها من خلال حقيقة أنَّ معظم الأميركيِّين اعتبروا أنفسهم مسيحيِّين وانطلقوا في تأثيرهم من إطار مسيحيٍّ للمرجعيَّة الأخلاقيَّة في الأساس. إنَّ أمريكا هي أمَّة يتمُّ تعريف مواطنيها على نحو ساحق بأنَّهم مسيحيُّون ولا يمكن تصوُّر التجربة الأمريكيَّة بدون الأساس الذي وضعته الافتراضات الأخلاقيَّة المسيحيَّة.
لكنَّ أمريكا ليست، بحكم تعريفها، أمَّة مسيحيَّة بأيِّ معنى مفيد. يقدم العلمانيُّون وأعداء الإيمان هذا الطرح لأسباب عدائيَّة مضادَّة أيًّا كان عددها، وهم يقدمون حُججًا خاطئة كثيرة أيضًا. ولكنَّ هذا لا ينبغي أن يدفعنا كمسيحيِّين أمريكيِّين إلى تقديم حججٍ سيِّئة من جانبنا.
إنَّني أَنتقدُ الرئيس أوباما، ليس لقوله إنَّ أمريكا ليست في حرب مع الإسلام، ولكن لإخفاقه في أن يكون صادقًا في توضيح أنَّنا نواجه تحدِّيًا حضاريًّا كبيرًا في الإسلام. فالإسلام، في الواقع، هو الخصم الأكثر أهميَّة للمُثُل الحضاريَّة الغربيَّة على الساحة العالميَّة. فمنطق الإسلام هو جعل كلِّ بوصة مربَّعة من هذا الكوكب خاضعةً لحكم القرآن. فالإسلام الكلاسيكيُّ يقسِّم العالم إلى «دار الإسلام» و «دار الحرب». وفي دار الحرب، يجب أن يظلَّ النضال قائمًا من أجل إخضاع المجتمع للقرآن.
في ذلك الوقت، خلق الرئيس أوباما أيضًا تشويشًا شخصيًّا لديه بشأن هذه القضايا ممَّا أدى إلى إفساد وجهة نظره الرئيسيَّة. فإن كانت أمريكا ليست في حالة حرب مع الإسلام، فقد يبدو من غير المفيد أن تشير إدارة أوباما إلى إيران بوصفها «جمهوريَّة إيران الإسلاميَّة» على النقيض من الممارسات الأمريكيَّة في السابق. وبالمثل، بدت بعض كلماته وإيماءاته خلال رحلته متسامحةً للغاية تجاه الإسلام؛ خاصَّة وأنَّ هذه الكلمات والإيماءات كانت بصدد أن تصبح محلَّ تفسير لدى العالم الإسلاميِّ في نطاقه الأكبر.
يدفع هذا الطموحُ العالمَ الإسلاميَّ -وكل مسلم مُخلِص- إلى أن يأملَ ويصلِّي ويعمل من أجل إخضاع العالم بأسره إلى القرآن. من الواضح أنَّ معظم المسلمين ليسوا على استعداد لاستخدام الإرهاب من أجل تحقيق هذا الهدف.
ومع ذلك، يبقى ذلك هو الهدف.
يقدم كلٌّ من الإسلام والغرب رؤيتين للمجتمعِ مختلفتين للغاية وغير قابلتين للتوافق بشكل أساسي. ففي حين أننا لسنا بالتأكيد أمَّة في حالة حرب مع الإسلام، إلاَّ أنَّنا أمَّة تواجه تحدِّيًا هائلاً من العالم الإسلامي؛ تحدٍّ يشمل الإرهاب، ولكن يشمل أيضًا طموحًا حضاريًّا مركزيًّا أكبر بكثير. يجب على أيِّ شخص يقف في إسطنبول، المقرِّ التاريخيِّ للقوَّة العثمانيَّة، أن يدرك هذه الحقيقة بالتأكيد.
بصفتي مؤمنًا بالرب يسوع المسيح وخادمًا للإنجيل، فإنَّ اهتمامي الأساسيَّ بالإسلام ليس حضاريًّا أو جيوسياسيًّا، بل لاهوتيًّا. أعتقد أنَّ يسوع المسيح هو بالفعل «الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ»، وأنَّه ليس أحد يأتي إلى الآب إلا به (يوحنَّا 14: 6). إنَّ الخلاص يكمن فقط في الإيمان بالربِّ يسوع المسيح، وإنجيل المسيح هو الرسالة الوحيدة التي يمكنها أن تُخلِّص.
يمكنني أن أتَّفق مع الرئيس أوباما على أنَّ الإسلام أنتج عجائب ثقافيَّة، لكن عليّ أن أراه أكثر فأكثر كنظام عقائديٍّ يسوق الملايين فوق الملايين من الناس كأسرى روحيِّين؛ تاركًا إيَّاهم تحت لعنة الخطيَّة وبلا أمل في الخلاص.
بالنسبة لنا كمسيحيِّين، وبغض النظر عن جنسيَّاتنا، فإنَّ هذا هو التحدِّي الكبير الذي ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل. إن اهتماماتنا ليست سياسيَّة بالدرجة الأولى، وإنما لاهوتيَّة وروحيَّة. وبوضع كل هذه الأمور في الاعتبار، فإنَّ الإسلام يمثِّل بالتأكيد التحدِّي الأكبر للكرازة المسيحيَّة في عصرنا.